بين «الوقائية» الأممية و«الاستباقية» الأميركية ؟!

يعود الخطاب الأميركي إلى الاستئثار بالبعد الأممي من بوابة فرض الذهنية الغربية على مفاعيل التحرك الدولي واتجاهاته المستقبلية، وتحكم مفرداته السيطرة الكلية على مصطلحات ومفاعيل الاستخدام الأممي لدورها حاضراً ومستقبلاً على نحو مستنسخ, وبطبعة أردأ من المفهوم الأميركي ذاته.

فحين يتبنى مجلس الأمن مفهوم العمل الوقائي، ثمة أسئلة خطيرة تلحّ على الطرح من زاوية الغاية الفعلية لهذا الإجراء، في وقت يواجه فيه مجلس الأمن والمنظمة الدولية فشلاً ذريعاً وغير مسبوق في احتواء الأزمات المتفجرة، فكيف الأمر بالقادمة، والأمم المتحدة لم تحرك ساكناً لمواجهة عوامل تفجّر الصراعات، ولم تتعاط بفاعلية مع أسبابها الحقيقية، رغم ما توافر لدى المنظمة الدولية من معطيات سابقة ولاحقة.‏

الأخطر أن تتحوّل إلى مقدمة تمهيدية لحالة الاستلاب التي تعاني منها المنظمة الدولية، وتدويل العجز المتفاقم في بنيتها، ليكون على مقاس الطرح الأميركي والغربي عموماً، حين كانت الحروب الاستباقية واحدة من أكثر الانتهاكات خطورة لميثاق المنظمة الدولية ذاتها تحت ذريعة «الوقائية»، وعاملاً من أخطر عوامل تفجّر الصراعات في العالم، والمنطقة العربية شاهد حيّ على الكثير من تلك التجارب الكارثية بامتياز والتي تدفع ثمناً للأخطاء التي ارتكبت بدافع من ذهنية غربية أوغلت في استحضار الذرائع بأقنعة فقهية وقانونية وسياسية لتحقيق أطماعها.‏

تأخذ الحالة وجهاً أكثر استباحة مع يقظة متأخرة للأطماع الغربية التي تشنّ حروباً بالجملة على جبهات مفتوحة ومتحركة، فتكون الاستباقية الأممية قاعدة إضافية لإعادة تعويمها، وهي تستنسخ الأدوات والقواعد، وربما التكتيكات ذاتها التي كانت تمارسها في عهود سطوتها الغابرة، حيث المحتوى المقروء من التداولات السابقة يشير إلى قصف تمهيدي.. له ما بعده وعليه ما قبله.‏

والسؤال ربما الأكثر إلحاحاً قد يتعلق بالتوقيت قبل أن يكون بالمضمون، حين بدت الأمم والقوى الغربية غير مكترثة بنتائج الدروس السابقة، ولا تمتلك الاستعداد للاستفادة منها، وقد قدمت تطورات المنطقة اليوم شواهد بالجملة على حالة الاصطياد التي تمارسها تلك القوى تحت شعارات كانت المطيّة اليتيمة والمكرورة لتجيير المنظمة الدولية وتحقيق أجنداتها المستحدثة في ضوء الأطماع الغربية.‏

في الفهم الأولي لمعنى الإجراء الاستباقي قد يكون محكوماً بالضرورة بما توفّر من تجارب وطروحات قدمتها محتويات الذهنية الغربية على مدى عقود خَلَت، وكانت حالة إجرائية بنسخة عدوانية كاملة الأوصاف والسمات، فرضت حضورها على المنطقة والعالم اللذين يواجهان تداعياتها القائمة في أشكال التطرف والإرهاب المزروع على مقاس الأجندة الغربية، بما في ذلك أجندتها الداخلة في تركيبة المفاهيم الاستباقية بمبررها الوقائي!!‏

قد يكون مفهوماً أن تهرب المنظمة الدولية إلى الأمام للتغطية على عجزها، وربما مبرراً لها في بعض الاستدراكات القادمة أن تحاول التملّص من تبعات الفشل القائم في كثير من مفاصل عمل المنظمة الدولية، لكنه يبدو مستهجناً إذا ما اقترن على الأقل بما هو قائم على الأرض، وما يواجهه العالم من تطرف وإرهاب كان أحد أسبابه تقاعس المنظمة الدولية عن القيام بما ترتبه عليها مسؤولياتها المباشرة وغير المباشرة، وغضّ الطرف عن ممارسات الكثير من أعضائها الدائمين في مجلس الأمن، التي أدت إلى نشوء النزاعات من جهة وإلى تفشّي الإرهاب حين كانت داعمة وحاضنة ومشجعة له على كل المستويات من جهة ثانية.‏

الأمثلة كثيرة والوقائع المرتبطة بذلك أكثر، وحالة الاستباق لا تقترن بمضمون القرار بقدر ما تعكس محاولة يائسة تقودها الولايات المتحدة الأميركية لضمان الاستمرار في استلاب المنظمة الدولية لمرحلة قادمة، تضمن من خلالها ترحيل أي تفكير دولي بإصلاح المنظمة الدولية في المدى المنظور، وهو إجراء استباقي لا تستطيع المنظمة الدولية أن تنفيه!!‏

المفارقة أن يكون تعويم الفشل على حساب التطلع المشروع للشعوب في إصلاح المنظمة الدولية من بوابة الحاجات التي استجدّت، ومن زاوية درء المخاطر القادمة الناتجة عمّا احتوته المنظمة من ثغرات فاضحة في عملها، ومن تجاوزات على ميثاقها ومبادئها، لتعيد الولايات المتحدة الأميركية التحكم بمسارها الافتراضي بحيث لا يخرج عن ذهنية التفكير الأميركي ولا يتجرأ على التمرد أو الخروج عن عصا الطاعة الأميركية كحالة استباقية.‏

بقلم: علي قاسم