الأديب والقاص محمود موعد بذكرى رحيله.. ديمومة الحضور وسط الغياب

دمشق -سانا

الأديب والقاص محمود موعد كان في سباق مع الزمن فحاول عبر سنوات عمره الخامسة والخمسين أن يتجاوز كل شيء من مرارة النزوح عن الوطن وهموم القضية وقلق الكاتب إلى ساحة سماوية أمدته بما شاء كل ما احتاج لها.

وموعد الذي تمر ذكرى رحيله السابعة عشرة عاش ككل الفلسطينيين الذين عاصروا النكبة بين ذكريات الأمس ومرارة الحاضر وعندما غادر وأسرته قرية صفورية وعمره لا يتجاوز الستة أعوام في ليلة تموزية لم ينسها كتب عنها لاحقا فقال “أسرع والدي وهو يمسكني بيده اليمنى ويمسك أخي الأصغر بيده اليسرى ويقودنا في المقدمة وكنت أرتجف رعباً دون أن أدرك تماما ما يجري… لعلي ليلتها اكتشفت لاول مرة معنى ما للموت”.

قادت رحلة النزوح الصغير محمود إلى دمشق وتحديدا حي الميدان حيث نشأ واجتاز صفوفه الدراسية الأولى ولمواجهة ظروف الحياة الصعبة اضطر إلى أن يعمل في مهن مختلفة ليعيل أسرته ومنها الرعي ليكتب بعد أن بلغ في الشهرة ما بلغ عن تلك المرحلة “كان الطفل الصغير في… في الصباحات البعيدة، يسوق قطيع الماعز…. يقوده عبر الدروب الترابية الطويلة إلى الحقول والمراعي تماماً حيث سيتربع، بعد سنوات معدودات، مخيم اليرموك ليبني أسماره، ويساور أحزانه، وينتظر دروب الرجوع إلى القرى والمدن الغافية”.

وعندما ظهر مخيم اليرموك في جنوب دمشق في أواخر خمسينيات القرن الماضي انتقلت إليه أسرة موعد الذي تابع دراسته فحصل على إجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق عام 1965 وعلى دبلوم الدراسات العليا من جامعة القاهرة ثم على دبلوم التأهيل التربوي والدبلوم الخاصة في التربية عام 1986 وليتوج مسيرته التعليمية بحصوله على شهادة الدكتوراه في الأدب الحديث عام 1979 من جامعة السوربون الفرنسية عن رسالته الدين والعصر في أدب نجيب محفوظ.

وموعد الذي عمل محاضرا في جامعة دمشق وفي المعهد العالي للفنون المسرحية بدأ إبحاره في عالم الأدب عام 1978 عندما نشر مجموعته القصصية الأولى “رباعية الموت والجنون” ورغم أنه كان يكتب القصة القصيرة منذ وقت طويل إلا أنها كانت عبر رؤية رومانسية ساذجة للعالم والمجتمع كما بين هو لاحقا حتى أحس أنه امتلك صوتاً خاصاً وإضافة لفن القصة القصيرة فبدأ بالنشر.

الكتاب الثاني لموعد أصدره خلال إقامته في باريس لنيل الدكتوراه وكان مختلفا شكلا ومضمونا فجاء تحت عنوان “قصص من فلسطين” عبارة عن أنطولوجيا للقصة الفلسطينية باللغة الفرنسية اختارها وقدم لها موعد بالتعاون مع المستشرقة السويسرية كلود كارول.

ولدى عودة موعد من فرنسا كان من أوائل من ترجموا للعربية أعمالاً للأديب الكولومبي الفذ غابرييل غارثيا ماركيز فصدرت في سنة 1980 ترجمته لرواية “أرانديرا الطيبة وجدتها الشيطانية” وفي العام التالي عمل مديرا عاماً لدائرة التربية والتعليم العالي في منظمة التحرير الفلسطينية.
وبعد عام واحد قدم موعد تجربة شعرية فريدة لدى إصداره في دمشق ديوانه الشعري الأول “برقوق من فلسطين” باللغة الفرنسية ثم أعاد إصداره في جنيف بسويسرا سنة 1985.

وعند انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987 كتب موعد وكان حينها مقررا لجمعية القصة والرواية في اتحاد الكتاب العرب..”اليوم تعيد حجارتكم العاشقة رسم خارطة فلسطين على كل الصدور تحفرها في كل قلب تكتبها قصيدة موجة على بحر عكا قمراً في سماء بيسان زهرة على بيارات يافا ‏قبلة على جبين مريم الناصرة”.

وعندما أصدر مجموعته القصصية الثانية سنة 1990 “فحيح المرايا” بعد اثني عشر عاما من صدور مجموعته الأولى أعاد سبب قلة إنتاجه القصصي إلى أنه لا يسرد حكاية في القصة وإنما يحاول جاهداً إعادة صياغة الواقع من جديد وفق المنطق الداخلي للقصة ووفق رؤيته للعالم.

قلب موعد البريء وفكره العروبي لم يسمحا له أن يتحمل ما تسببت به أزمة الكويت وحرب الخليج الثانية أوائل تسعينيات القرن الماضي وجعلت منه أسير حالة اكتئاب طويلة فكتب لأحد أصدقائه في كانون الأول 1991 “أشعر بالتعب وانسداد الآفاق.. وأود لو أخلد إلى راحة وأغادر كل شيء”.

النكسات السياسية التي حلت بالقضية الفلسطينية ولا سيما بعد توقيع اتفاقيات أوسلو سنة 1993 أرهقته لكنه لم يهتز فكتب عنها منتقدا.. “السلام الذي يريدونه هو السلام المتوج باقتلاع الآخرين من الأرض والجذور والذكريات والأحلام”.

بقي أمام موعد سنوات أربع ليغادر عالمنا فأصبح في سنيه الأخيرة شديد النشاط يسابق الزمن فشرع سنة 1994 على إصدار سلسلة “كان يا ما كان” الموجهة للأطفال ولكن المشروع توقف نتيجة مصاعب مالية ثم عكف على أعمال بدأها في السبعينات والثمانينات ولم يكملها فأتم ترجمة رائعة إيتالو كالفينو مدن الخيال وترجمة إطروحته للدكتوراه ثم أخذ يجمع ما ترجمه من قصص دينو بوتزاتي وما كتبه من نصوص سردية وقصص في سنواته الأخيرة.

وفي صباح 27 آب سنة 1997 اختار موعد عنوان مجموعته القصصية الثالثة والأخيرة “سخريات الظلال” ثم غادر منزله إذ كان وعد كثيراً من أصدقائه بلقائهم في ذلك اليوم ولكنه رحل بهدوء في طريقه إليهم دون أن يقول كلمة وداع فقد داهمت قلبه نوبة قلبية مفاجئة أخذته من عالمنا.

وعندما نحاول أن نتلمس ذلك الأثر الذي تركه الدكتور محمود موعد في أدبنا الحديث عبر ما خلفه من كتب وما كتبه في الصحف سنجده حاضرا فينا رغم غيابه لأنه كاتب انصهر مع مأساة وطنه وأحزان أمته إضافة لحدس غيبي استشعر في كل سطر خطه بأن القادم أعظم فقال مرة “الكاتب الصادق يستطيع أن يتنبأ دون أن يكون متنبئا” ولكنه كان رغم ذلك قادرا دائما باعتراف أصدقائه وخلانه على فتح بوابة الفرح فضلا عن قدرة خرافية على هزيمة حالات اليأس والقنوط .