اللاذقية-سانا
حتى المقابر لم تعد هادئة أو آمنة ..رمزية لاستهداف الحضارة التي تجسدها سورية وللقامات الفكرية والثقافية التي خلدها تاريخها وجدت طريقها إلى جمهور المسرح القومي في اللاذقية مساء أمس الذي حضر جدلية ثنائيات متناقضة في العمل المسرحي “سهرة في المقبرة”.
كوميديا ساخرة حاول مؤلفها ومخرجها الدكتور محمد بصل كما يقول محاكاة الأزمة في سورية عبر بنية حكائية غير مسبوقة يتفاعل فيها الحلم مع الحقيقة والممكن والمستحيل والجمالي والقبيح في ثنائيات لا تنتهي وتستدعي موقفا من المتلقي إزاءها.
والمسرحية التي أداها الممثلون حسين عباس وفايز صبوح ونجاة محمد ومجد أحمد ونضال عديرة وآخرون تبدأ عندما يحاول بطل العمل حسين عباس حارس المقبرة أبو نوفل في حلمه استحضار شخصيات سورية منها نزار قباني وسعد الله ونوس وممدوح عدوان وصولا إلى المعري والمتنبي كما هي وصية والده الدائمة والذي مثل الضمير مجد أحمد لتخرج إليه شخوص غريبة عن المجتمع السوري ضلت هديها وطريقها لتموت على أرض سورية إما طمعا بالمال وسعيا وراء الحوريات.
وطوال العرض يرفض أبو نوفل فكرة فايز صبوح الذي أدى دور صاحب التنور أبو هيفا وابنته هيفا نجاة محمد بأن الشخصيات التي يحاول استحضارها تركت المكان فالعباقرة بالنسبة له لا يتركون بلدهم لأنهم يحبون ترابه ومستحيل أن يغادروه.
تناقضات الحلم والحقيقة والحياة والموت والثقافة والجهل التي وضع مؤلف العمل الجمهور أمامها كانت الطريق لتعرية الأفكار الرخيصة للدخلاء على المجتمع السوري بقالب كوميدي لم يخل من الجرأة في أكثر من مجال كما لم يخل من الغناء والرقص لينتقل بالجمهور إلى معايشة الأزمة التي يمر بها بالنكتة الخفيفة والمضحكة.
والعمل الذي يستمر عرضه لأكثر من أسبوعين ركز على لفت أنظار الجمهور إلى الإرث الثقافي الذي خلفه أجدادنا والحضارة التي
بنوها وجبلت بالفكر والعلم ومحاولات استبدال ذلك الإرث بآخر لا يمت للقيم بصلة يسيره الطمع وحب المال والغريزة.
ويوضح الممثل حسين عباس في تصريح لنشرة سانا الثقافية أن المسرحية تمثل تجربة من عدة تجارب أخرى “أردنا كمجموعة عمل أن
نقدمها بإطار كوميدي يحترم الجمهور” حيث كان هناك نقاش مع المؤلف منذ بداية كتابة العمل عما يمكن تقديمه للناس خلال هذه الفترة معتبرا أنه كان بالإمكان إبكاء الناس بنص تراجيدي وذلك أسهل من إسعادهم أو حتى عبر تقديم كوميديا تهريجية لكن فريق العرض حرص على احترام الجمهور وتقديم أفكارنا بأسلوب راق ومسل ليخرج الجمهور مبتسما.
ويلفت إلى أن المشاركة في النشاطات الفنية بالمحافظة بغض النظر عن ماهيتها تحمل رسالتين الأولى ..أننا موجودون والثانية هي الرد على استهداف سورية على المستوى الفكري والثقافي كما يفعل الجيش العربي السوري في الميدان الذي يدافع عن وجودنا.
من جهته يرى الممثل مجد أحمد الذي جسد شخصية الراوي والأب الضمير والتي تحمل مقولة العرض وتشرحه من خلال مداخلات أن
المسرحية تتناول المواجهة الحقيقية مع الفكر الظلامي والتخريبي الذي يشن هجوما على ثقافتنا وحضارتنا وإلى أي مدى نحن قادرون
على مواجهته والتمسك بجذورنا الحقيقية معربا عن أمله بأن يكون العمل أوصل هذه الرسالة إلى الجمهور.
أما نجاة محمد التي لعبت دور هيفا فتعتبر أن المسرحية تهدف إلى إيصال رسالة بأن الشعب السوري قوي ومنتصر وأن الثقافة التي يحملها ويكتنزها تاريخه هي رافعة لذلك الانتصار.
وركز الفنان التشكيلي محمد بدر حمدان في الديكور على التناقضات أيضا لتجسيد الحلم حيث جعل شواهد القبور عبارة عن مجلدات حملت اسم الكاتب وما لم يطرحه نص المسرحية وتغاضى عنه نتيجة التفاؤل الذي تضمنه لم ينكره الديكور حيث يقول حمدان..”لم نتغاض عن الشجرة الأخطبوطية التي تلتهم المكان وكان لونها أسود فاحما في قراءة للواقع الذي نعيشه” مؤكدا أن الديكور شخصية مهمة يجب أن تأخذ حقها في الحلم ومبينا في الوقت نفسه أن المقبرة امتدت إلى نهاية المكان واحتضنتها لوحة فيها تتابع للحلم بحيث حمل السلم في منتصفها دلالات الحلم والأمل في المستقبل.
بدوره مدير الثقافة في المحافظة مجد صارم الذي حضر العرض أكد في تصريح مماثل أن المسرح في اللاذقية بحاجة إلى مثل هذه الأعمال والذي كان أكثر من رائع وجسد الصراع الدائم بين الخير والشر والعلم والجهل معتبرا أن العمل لامس الواقع الذي نعيشه وأن مؤلفه ومخرجه وفق باختيار الكوميديا الساخرة أسلوبا للعرض وأسعد الناس رغم ما يعيشونه من ألم.
واعتبر فاتح جاموس عضو ائتلاف قوى التغيير السلمي المعارض الذي حضر العرض أن استحضار المسرحية للشخصيات والنخب السورية
التي تحلت بالشجاعة في وقتها إلى درجة كانت تبدي رأيها في العمل السياسي والاجتماعي والفكري السوري “دليل على وجود نخب قادرة حاليا على إبداء رأيها بكل جرأة”.
ووصفت ربا حداد خريجة معهد فنون من الجامعة اللبنانية العمل ب”الخفيف على المتلقي” الذي حاكى قضية مجتمع نعيش واقعه الحالي بكل “سذاجته” مشيرة إلى ان العمل ضم “كريكترات” رائعة مبدية إعجابها بشخصية الضمير وبطريقة أدائها رغم أنها لم تخف امتعاضها من الجمهور الذي ضحك لنكت بسيطة وأخرى كانت مكررة ولا تستحق حسب تعبيرها.
أما شادي نصير خريج فنون جميلة فأشار إلى وجود حاملين للمسرحية الأول صوت الضمير والثاني الشخصية المركبة التي جسدها حسين
عباس وهي في أحداهما كانت ديناميكية أما الثانية فكانت مستترة وراءها وهو ما أضعف من الشخصية الثانية وجعلها لا تصل إلى الجمهور إلا من خلال بعض المرادفات الجنسية التي اضحكته.
ورأى أن المسرحية جاءت في قالب الكوميديا الساخرة لكنها “فلتت في بعض الأحيان” معتبرا أن ذلك لا يتحمله النص أو المؤلف والمخرج والممثلون بقدر ما يتحمله الجمهور الذي لم يعتد على هذا النوع من المسرح الذي اشتهر في روسيا.
ونجحت المسرحية رغم عنوانها المثير للجدل في استقطاب جمهور واسع لمتابعة العرض الذي استمر نحو الساعة لتعزز أهمية الفن والمسرح في حياة الشعوب وحالة الشوق لأعمال فنية من هذا النوع لدى الجمهور وخاصة بين فئة الشباب التي كانت غالبة بين الحاضرين.
فاطمة ناصر-بسام الابراهيم