دمشق-سانا
توثق اللقى الأثرية السورية عظمة الحضارة السورية وأصالتها وتميزها وإبداع حرفييها وفنانييها في صنع ونحت ورسم كل ما هو فريد ومميز عالميا.
ويشهد على ذلك كما يقول المؤرخ الدكتور محمود السيد نائب مدير المخابر وقارئ النقوش الكتابية القديمة في المديرية العامة للآثار والمتاحف إناء فريد على شكل رأس أسد فارغ من الداخل يميل إلى الأحمر البني مصنوع في سورية استنادا إلى خصائصه الفنية وأسلوب نحته ومشغول من الكهرمان البلطيقي بدقة مطابقة للواقع طوله 6 سم ويمثل حجمه حالة نادرة جدا في العالم وهو أضخم إناء مشغول من الكهرمان مكتشف في العالم حتى الآن استخدم على الأرجح في حفظ زيت ثمين أو عطر باهظ الثمن.
وأوضح السيد أن الإناء اكتشف مع الغطاء في الزاوية الشمالية الشرقية من الحجرة الرئيسية للمدفن الملكي في القصر الملكي في مملكة قطنا “موقع” المشرفة” حاليا في محافظة حمص وتبين من التحاليل الـ بيو كيميائية أنه مشغول من الكهرمان البلطيقي” سوكينيت ويؤرخ بعصر البرونز الحديث بالفترة الواقعة ما بين القرنين الخامس عشر والرابع عشر قبل الميلاد وهو محفوظ حاليا في المتحف الوطني بدمشق.
وقال المؤرخ السوري يؤكد اكتشاف خمسين جوهرة من الكهرمان لها ثلاثة أشكال مختلفة وأزرار مستديرة بيضاوية وكسرات يد وجواهر وسكارابيوس وسلسال كبير مصنوعة أيضا من الكهرمان في المدفن الملكي بقطنا وعدد من الجواهر الكهرمانية في قبور مملكة ماري ومملكة ألالاخ و21 جوهرة مصنوعة من الكهرمان اكتشفت في القصر الملكي في مملكة أوجاريت على وجود مشاغل كبيرة في سورية لصناعة الحلي من الكهرمان كما أن الشكل القرصي لبعض جواهر الكهرمان المكتشفة في المدفن الملكي في قطنا والمجلوخ بدقة مع جواهر من اللازورد والعقيق قرصية الشكل ومطابقة تماما للجواهر الكهرمانية في الحجم وفي طريقة الصنع والتي لا يوجد لها شبيه في منطقة إيجة وفي أوروبا الوسطى يدل على أنها صناعة سورية في حين أن معظم الجواهر الكهرمانية المكتشفة في منطقة بحر إيجة والشرق الأدنى ومصر ذات شكل عدسي أو كروي مسطح وعثر على نماذج منهما في قطنا وتكون غالبا غير متناظرة بشكل دقيق وإنما ذات شكل غير منتظم بما يشبه تماما القطع الموجودة في وسط أوروبا ما يدل على أنها مستوردة.
ولفت نائب مدير المخابر إلى أن الكهرمان أو العنبر مادة غروية شبة صلبة غير متبلورة عضوية أو مادة راتنجية متحجرة صمغية تفرز عن طريق جيوب وقنوات خلايا جذوع الأشجار الصنوبرية المنقرضة كوسيلة دفاعيه لها ضد الأمراض والفطريات والحشرات وقد تحجرت المادة الصمغية قبل ملايين السنين وتحولت إلى حجر شفاف شبه كريم يدعى كهرمان وله ألوان وأشكال مختلفة ويتميز كل منها بدرجة مختلفة من الشفافية والطيف اللوني وتتسم بعض القطع بنقاء كالكريستال وبعضها معتمة أو غائمة وأخرى شمعية وغير ملساء وتختلف بنية الكهرمان وأنواعه وألوانه باختلاف الظروف والعوامل الجوية المحيطة من هواء ورطوبة وضوء.
وللكهرمان أسماء عديدة منها العنبر والكهرمان الأصفر وحجر الكهرباء والقطرون والإلكترون وجاذب التبن.
ولفت السيد إلى أن الكهرمان مادة نادرة جدا ومناطق انتاجها واستخراجها مقتصرة على بعض المناطق في العالم.
ويعتبر الساحل الجنوبي لبحر البلطيق المصدر الرئيسي قديما وحديثا للكهرمان ففيه تتركز 90 بالمئة من احتياطات الكهرمان في العالم ويوجد أيضا كميات جيدة من الكهرمان في سواحل بولونيا وفي جمهورية الدومينيكان ويتميز الكهرمان الدومينيكي باللون البني المنقط بسبب بقايا قديمة تجمعت داخل اللون الأصفر النقي. وتوجد كميات صغيرة في صقلية رومانيا سيبيريا جرينلاند ميانمار أستراليا والولايات المتحدة.
وقد عثر على الكهرمان كقطع طافية على سطح البحر كون الكهرمان خفيف الوزن ويطفو في الماء المالح أو على سواحل البحر أو مطمورة في أتربة بعض المناطق الجبلية والكهوف.
بعض القطع صغير الحجم وبعضها كبير للغاية قد يصل وزنها إلى أكثر من 10 كغ.
وبحسب نائب مدير المخابر يصنف الكهرمان وفقا لأماكن تواجده وتنوع الصمغ الصنوبري المتحجر ولونه ودرجة شفافيته وجودته إلى عدة أنواع أهمها.. الكهرمان البلطيقي أجود الأصناف وأعلاها قيمة والكهرمان الروماني ومصدره الرئيسي رومانيا ويمتاز بنسبة أعلى من الكبريت وأقل من حامض السكسونيك من الأصناف البلطيقية تنبعث منه رائحة قوية عند التسخين وينصهر بدرجة 300 مئوية دون أن يتمدد حجمه.
والكهرمان الصقلي ومصدره الرئيسي منطقة بالقرب من نهر سمتو بجزيرة صقلية وهو نوع أكثر عتمة من الأصناف البلطيقية والكهرمان البورمي وهو نوع موحد اللون معظمة أصفر باهت شفاف وهو نوع أكثر صلابة من البلطيقي. ويتميز الكهرمان البلطيقي عن باقي أنواع الكهرمانات بأنه يتم تحسينه بالحرارة أو بعلاج النفط و يتم تعقيمه بالمؤصدة بعكس الكهرمان الدومينيكي.
وبين خبير الآثار السوري أن للكهرمان البلطيقي نظرا لتركيبه الكيميائي النوعي أصناف عديدة تحدد قيمته و جودته أهمها الكهرمان النقي وهو صنف شفاف تتراوح ألوانه بين الأبيض المائي والأصفر والأحمر البني.
والكهرمان الشحمي وهو نوع مشوب بكدورة طفيفة ناجمة عن وجود فقاعات هوائية مجهرية والكهرمان العظمي أو العاجي ويمتاز بصقالته وقوة رائحته العطرية ويقلل من قيمته اكتناف حباته بنقط بيض أو سود أو خضر والكهرمان الرغوي وهو نوع أبيض طباشيري أقل قيمة من العظمي لافتقاره للصقالة والبريق.
والكهرمان المهجن وهو نوع كمد جدا تكتنفه بعض الفقاعات الهوائية وتغلب على ألوانه الصفرة الكامدة والبريق الشمعي غير المشرق.
وللكهرمان ألوان عديدة تختلف في درجاتها وشفافيتها فنجد لون مصفر يميل إلى البرتقالي وأحيانا يميل إلى البنى والألوان الأكثر شيوعا الأصفر ثم الشفاف وأقلها شيوعا الأبيض وأندرها جدا الأزرق وهو كهرمان لونه بالأساس أصفر شفاف لكن يتحول لونه إلى الأزرق إذا تعرض للضوء وهو أندر كهرمان موجود العالم. يتكون الكهرمان من 94ر78 بالمئة كربون و53ر10بالمئة هيدروجين و53ر10بالمئة أوكسجين وعند تقطير الكهرمان يخرج منه الماء.
ويمتاز الكهرمان بمادة طيعة لدنة سهلة التعامل معها بالنحت والخراطة والتصنيع وبإطلاق رائحة عطرية زكية نفاذة إذا ما دلك بالقماش أو اليد أو تعرض للحرارة.
ويمتاز كذلك بخاصية إبراز وانبعاث الشحنة الستاتيكية الكهربائية.
وينصهر الكهرمان عند درجة حرارة 280 درجة باستثناء الكهرمان الروماني الذي ينصهر عند درجة حرارة 300 درجة ويشتعل الكهرمان بلهب وهاج تنبعث منه أدخنة كثيفة ورائحة زكية.
وبين السيد أن ضعف قساوة الكهرمان يجعله شديد الحساسية أمام المؤثرات الطبيعية والمناخية لذلك نجد أن غالبية القطع الأثرية المصنوعة من الكهرمان والمكتشفة في المدفن الملكي في مملكة قطنا ذات لون بني غامق وسطح خشن سريع التفتت.
وأشار السيد أنه يجب تجنب تنظيف الكهرمان بالمواد الكيماوية التي يمكن أن تضر الكهرمان ويتم تنظيفه فقط مع الماء الفاتروقطعة قماش ناعمة ويجب تخزين الكهرمان في صندوق مبطن أو في كيس من القماش لحماية أحجار الكهرمان اللينة جدا من الخدش ويجب استخدام زيت الزيتون في صقل الكهرمان لزيادة بريقه. ويشكل الكهرمان أحد أهم المصادر العلمية في دراسة واقع البيئة والكائنات الحية التي عاشت قبل ملايين السنيين فالكهرمان أثناء سيلانه من جذوع الصنوبريات المنقرضة التصقت به حشرات مختلفة وسجنت بداخله بعد تجمده عليها وهناك أحافير لبعض الحشرات كالنحل والنمل والبعوض وجدت محفوظة حفظا كاملا في الكهرمان منها نحلة اكتشفت داخل حجر كهرمان في أحد المناجم بوادي هوكوانغ شمال ميانمار يقدر عمره بمئة مليون سنة.
وأوضح السيد أن للكهرمان النباتي فوائد طبية كثيرة يتجسد أهمها في علاج دمل القروح والجروح معالجة أمراض الأكزيما والنزف الدموي وخفقان القلب وعسر الولادة وداء الشقيقة والحساسية والسعال الديكي واليرقان والقلاع بثور الفم واللسان وحمى القش وتخفيف آلام المعدة والأسنان وآلام المفاصل والعظام وآلام الظهر والأنفلونزا والكحة والتهاب الحلق والتهاب الشعب الهوائية والربو ومنع القيء وحرقان البول وتفتيت الحصى.
يذكر أن أقدم كهرمان مكتشف في العالم حتى الآن اكتشف في جبال لبنان والأردن يؤرخ بنحو 136 مليون سنة وفقا لنتائج التحليل المعلنة بواسطة جامعتي كاليفورنيا وبيركلي في الولايات المتحدة الأمريكية وقد استخدم الكهرمان جزئيا في صناعة الحلي في بعض أجزاء أوروبا الشمالية والوسطى منذ العصر الحجري القديم وتطور استخدامه في منتصف الألف الرابع ق.م وزاد استعماله بشكل ملحوظ في عصر البرونز واستخدم في منطقة شرقي البحر المتوسط في ميكينه وبيلوس وكاكوفاتوس على الساحل الغربي لشبه جزيرة البيلوبون اليونانية منذ عصر البرونز الحديث نحو 1550 ق.م علما أنه اكتشف في القبور الدهليزية في ميكينه وحدها على 1650 قطعة أثرية كهرمانية منفردة كما اكتشف في قبر توت عنخ أمون1333-1323 ق.م في مصر سلسال كبير وعدد من اللقى الأثرية المصنوعة من الكهرمان كما وجدت شظايا منه على مذابح معابد الازتيك والمايا القديمة وكان يُحرق كبخور ويُرصع به الذهب ومعذلك تبقى الكمية الكبيرة من القطع الأثرية المصنوعة من الكهرمان والمتميزة بحجمها ودقة صنعها والمكتشفة في مختلف المواقع الأثرية السورية حالة فريدة في الشرق الأدنى والعالم.
عماد الدغلي